فن

فيلم «Waltz with Bashir»: تعاطفاً مع مجرمي الحرب

محاولة لوضع السينما الإسرائيلية وسردياتها في مصاف أفلام الحرب العالمية التي تسعى لنزع السياسة عن التجربة العسكرية وتتجاهل حقيقة الاحتلال الاستيطاني..

future ملصق فيلم «Waltz with Bashir»

في عام 2009 وأثناء ما يطلق عليه حرب غزة الأولى، صعد المخرج آري فولمان على المنصة لاستلام جائزة الجولدن جلوب عن أفضل فيلم أجنبي عن فيلمه والتز مع بشير «Waltz With Bashir 2008»، أهدى الجائزة للأطفال الذين ولدوا في تل أبيب وقت صناعة الفيلم، وتمنى أن يشاهدوا الفيلم معاً بعد سنوات من نضوجهم، لتصبح الحرب المصورة به بالنسبة لهم مجرد لعبة فيديو عتيقة لا وجود لها في حاضرهم، بعدها صرح فولمان تعقيباً على فوزه بينما تقصف إسرائيل قطاع غزة وتهجر أكثر من 100 ألف فلسطيني بين عامي 2008 و2009 بأن فيلمه فيلم ضد الحرب، لذلك سيكون دائماً مواكباً للأحداث.

وصف فيلم «والتز مع بشير» في عام عرضه بأنه فيلم شجاع، جريء وصادق، يحاول أن يصل إلى حقيقة داخلية ويواجه به المخرج ذاته بوصفه جندياً إسرائيلياً سابقاً، ويتحمل مسئولياته تجاه نفسه وتجاه الآخرين، وصف كذلك بأنه فيلم عن الذاكرة، خصوصاً ذاكرة الحرب والصدمة، كيف تتشكل تلك الذاكرة، تتشوه وتتموه الخطوط التي تفصل بين الحقيقي والمتخيل. لكن بجانب الإشادات الواسعة بشجاعة الفيلم في تناوله محاولات جنود إسرائيليين سابقين في استعادة الماضي استقبل الفيلم كتابات فلسطينية وعربية تشين الاحتفاء به، خصوصاً مع توقيت عرضه وحصوله على الجوائز السينمائية الأمريكية الكبرى، فهو فيلم يدعي أنه يفكك جرائم الحرب لكنه في واقع الأمر يسعى إلى تبرئة القائمين بالجرائم من جرمهم، ويفصل نفسه تماماً عن الأحداث الماضية والجارية وقته ويكثف كل نقده لمجزرة واحدة وهي صبرا وشاتيلا عام 1982، لكي تظهر وكأنها استثناء وشذوذ غرائبي في جسد جيش أخلاقي نادراً ما يخطئ.

ترن جمل فولمان عبر السنوات على الرغم من سطحيتها وانعدام مسئوليتها، بأن الفيلم سيكون دائماً مواكباً للأحداث، مع شن إسرائيل حرب إبادية لا تزال مستمرة لأكثر من عام على كل من قطاع غزة انتقالاً إلى لبنان بدعم كامل من الولايات المتحدة الأمريكية، بالنسبة لفولمان بوصفه مواطناً وجندياً إسرائيلياً فإن الحرب ضرورة حتمية، هي فعل غبي عديم الفائدة بحسب تصريحاته، لكنه ضرورة لبقاء دولة قائمة على الاستبدال والتهجير المستمر، فإذا كان صدور «والتز مع بشير» بالتزامن مع هجوم الجيش الإسرائيلي على غزة مصادفة ساخرة وتراجيدية فإنها تظل كذلك مع مشاهدته الآن، يتعامل الفيلم الذي يدمج بين عدة أنواع سينمائية مع جرائم حرب محددة باعتبارها ماضياً انقضى وحان وقت تحليله، يقع في مساحة اعتبارية واهمة تفيد بأن السيئ قد مضى ونحن الآن في وقت المصالحة مع أنفسنا، يفصل نفسه تماماً عن طبيعة الدولة الإسرائيلية وشكل قيامها واستمرار جرائمها الحتمي، تبدو إسرائيل في الفيلم وكأنها سافرت إلى مستقبل بديل  آمن تماماً بعيد عن حقيقة قيامها على فلسطين عن طريق الحصار والحروب المتجددة، وكأنها دولة ما بعد استعمارية، انتهت من حروب الماضي وتعيش الآن حاضراً يمكنها من تفنيد الماضي.

إعادة تركيب الذاكرة

«والتز مع بشير» فيلم تحريك تقع تحت طبقات رسومه الرقمية وألوانه التعبيرية سردية وثائقية تقليدية، تبدأ أحداثه من حلم/كابوس يرويه صديق لآري فولمان الشخصية الرئيسية والموضوع object ومخرج الفيلم في الوقت نفسه، تدور أحداث الكابوس الذي نراه قبل أن يروي لنا حول 26 كلباً ضارياً في حالة ركض مستعر ولهاث، تشتعل أعينهم بالغضب وتضج مدينة تبدو أبوكالبسية بنباحها، يوضح صاحب الكابوس بعد ذلك تفسيره المباشر، بأنه وأثناء أداء خدمته العسكرية في لبنان، وأثناء محاولته للقضاء على «الإرهابيين الفلسطينيين» اعتاد أن ينكشف غطاء سريته بنباح الكلاب التي تنبه النائمين فتحثهم على الهرب أو الهجوم، ولأنه لا يستطيع أن يقتل إنسان فنصحه زملاؤه بأن يتخلص من الكلاب واحداً بعد الآخر، 26 كلباً.

مشهد من فيلم Waltz With Bashir

توقظ تلك القصة عقل فولمان الذي كبح ذاكرته عن وقت خدمته في بريوت، لبنان، يريه عقله منها صورة واحدة، حيث تنير السماء أنواراً صفراء فاقعة، شعلات تسقط من مكان مجهول بينما يخرج هو داخل جسم مائي ثقيل يعكس الضوء ويمشي على شاطئ غامض، تصاحب المشاهد التي ترينا الذكرى موسيقى ماكس ريختر بأسلوبه الشهير حيث الوتريات الشجية التي تستدعي شعوراً جسدياً بالأسى، من تلك التصورات والذكريات النصف مكتملة تبدأ رحلة فولمان في نبش ذاكرته ومعها ذاكرة الجيش الإسرائيلي عن جريمة، لم يفعلها بالضبط لكنه أشرف عليها، بحسب رؤية الفيلم، يدور الفيلم إذن في زمنين ووضعين بصريين يتناوبان ذهاباً وإياباً، بين الحاضر التوثيقي الذي يأخذ شكل اعترافات تساعد فولمان على لملمة شتات ذكرياته، ومشاهد استعادية تدمج بين خيالات شخصية وذكريات عن وقت الحرب، يساعد وسيط الرسوم المضافة على خلفية من المشاهد الحية على خلق كل ذكرى ودمج الواقعي والخيالي، يمكن اعتبار رحلة فولمان نحو إعادة ترتيب ذاكرته الذاتية هي رحلة الفيلم نحو تركيب ذاكرة منتقاة تطوع التاريخ لصالح الخلاص من الذنب الذاتي.

مشهد من نفس الفيلم «Waltz With Bashir»

شهود على المذبحة

يستدعي الفيلم في صيغته التوثيقية أكثر الأساليب تلفزيونية وصرامة، وهي الرؤوس المتكلمة التي عادة ما تشير إلى نوع من الاعتراف وربما الجدية والصدق، باعتبارها شهادات تاريخية مصورة، تستخدم تلك الشهادات في «والتز مع بشير» لإعادة تركيب ذاكرة فورمان ليكون صورة عما اختبره، وهو الشهادة على مجزرة صبرا وشاتيلا، التي يحاول الفيلم أن يصل بنا لتقرير أنها جريمة من صنيعة قوات الكتائب اللبنانية انتقاماً من الفلسطينيين بعد مقتل زعيم الكتائب بشير الجميل، وأن دور الجيش الإسرائيلي بها كان سلبياً، دور شاهد على جريمة دون فعل لإيقافها، تستخدم إحدى الشهادات مجازاً عن ذلك، يصف أحد الجنود السابقين تجربته كناج من هجوم على دبابة إسرائيلية، نجا بالصدفة ولقي كل زملائه حتفهم، لكنه لم يقدر على أن يكون بطلاً، بالمعنى الفعال للكلمة، بتنفيذ العنف الذي يتخلص من الآخر وينجو بالأصدقاء.

بالمراوحة بين الأزمنة يتحول الفاعلون إلى شهود، جناة في الماضي ورجال متزنين في الحاضر يجب ألا يحملوا أنفسهم كل ذلك الذنب، كانوا صغاراً، وضعوا في قلب حرب لم يختاروها، وانتشوا برائحة البارود وجنون الشباب، في ذكريات القتال تكسر الرسوم المتحركة حدة العنف، حدة تصوير إطلاق النيران وتناثر الدماء أو سحق الدبابات، مما يصنع مسافة بصرية آمنة من ترويع أفلام الحرب، فتصبح نتائجها ومن ثم جرائم صانعيها أخف وطأة، يطرح ازدواج الأزمنة سرديتين متناقضتين عن أفعال الجنود الإسرائيليين، في الحاضر سردية اعتذارية  تلخص كل جرائم الجيش الإسرائيلي في الشهادة على مجزرة واحدة داخل لبنان، تناقضها تماماً صور الشهادات والمشاهدات الاستعادية، التي تسرد اجتياح لبنان من بدايته، دون وضع تبرير لحدوثه من الأساس.

تتوالى القصص عن إطلاق الجنود المراهقين النيران بشكل عشوائي، عن القتل دون هوادة، ينتهج الفيلم في مشاهده الاسترجاعية شكلاً يكاد يكون ساخراً من البطولات العسكرية، ونظام الجيش نفسه، حيث يجند رجال في عمر المراهقة لا يفكرون إلا بأدرينالين ناتج عن إثبات الذكورة أو يشغل بالهم فتيات تركونهن على الجانب الآخر، يغني الجنود أنهم سوف يقصفون لبنان يومياً، ولا يهم إذا فقد الأبرياء في الطريق، يتملك الجنود الخوف لحظة وصولهم شاطئ بيروت ويطلقون النار دون توقف على سيارة مدنية  يتضح أنها احتوت عائلة بأكملها، يحكي شاهد آخر عن إطلاق النار على طفل يحمل مدفعاً، تصور تلك الجرائم بشكل عابر، على أنغام موسيقى الروك اقتباساً من الأفلام الأمريكية التي صورت حرب فيتنام بشكل نقدي ساخر مثل القيامة الآن.

لا يتم تصوير تلك الجرائم بوصفها جزءاً من المجزرة الكبرى التي سوف تلحقها بل بوصفها أخطاء فردية ناتجة عن الخوف وصغر السن، لكنها ليست بثقل السرد في النصف الثاني من الفيلم حيث تستعاد الذاكرة بالتدريج، ويتعلم فولمان أن ما حدث ليس خطأه بل هي مجزرة ارتكبها العرب ضد بعضهم البعض، بالحديث مع صديقه الطبيب النفسي يستدعي المخيمات النازية لخلق موازاة تضع الجنود في محط الإصابة بالصدمة وليس ارتكاب الجرائم، يستخدم الفيلم تكتيكات العلاج النفسي لكي يؤطر التجربة العسكرية للجنود المراهقين، تتحدث متخصصة عن قدرة من يختبر أحداثاً صادمة على الانفصال من جسده والنظر إلى حياته باعتبارها فيلماً، ويتحدث آخر عن الذنب المزيف الذي يحمله الجندي اليهودي نتيجة لاختباره هولات النازية، تلك الخفة المستخدمة في تعديد جرائم الجنود الإسرائيليين تدينهم ربما صدفة، لكن في الوقت نفسه لا تعامل تلك الحوادث المتناثرة المستقلة بالشكل ذاته وبكائية نفسها التي تعامل بها المجزرة الرئيسية، حيث يصبح ثقل القتل حقيقياً يصبح الأطفال حقيقيين بل يدرج الفيلم صوراً أرشيفية لنساء ثكالى يصرخن أين العرب، وأشلاء متناثرة لضحايا واحدة من أبشع الجرائم.

يحيلنا عنوان «والتز مع بشير» نفسه للفرضية الرئيسية، الفعل هنا هو ليس ارتكاب جريمة مجردة بل الشهادة عليها أو الاشتراك بها، في رقصة مشتركة مع قوات الكتائب اللبنانية، المجرم الحقيقي هنا وهو كذلك بالطبع هو بشير، أما أفراد الجيش الإسرائيلي فهم مجرد بطانة تحميه وتدعمه وتحوطه أثناء ارتكاب المجازر، وهو ما يأخذنا لتعريف المجزرة وفصلها وتسميتها بحيث تصبح استثناء وسقطة يمكن جلد الذات بسببها، مع الاحتفاظ بالجرائم الفردية بشكل مجهل يمكن تخطيه،  يتكرر ذكر صبرا وشاتيلا كونها مجزرة ذات شهرة عالمية انتقدت بشكل عالمي وحدها دون غيرها من مئات المجازر الإسرائيلية الأخرى، بشكل أساسي كونها حادثة من عرب تجاه عرب، الخطيئة هنا هي صمت جيش الاحتلال عنها، وليس اجتياح لبنان ذاته من البداية.

تحتل الفيلم ثنائيات متناقضة بين الاعتراف والاعتذار، لكنه لا يدرج ثنائية بين الإسرائيلي والفلسطيني واللبناني هو فيلم عن الإسرائيلي فقط، عن ذنبه هو وشجاعته في الاعتراف به، عن النظر لأخطاء انتقائية من الماضي وتجاهل البقية، بل وتجاهل جرائم الحاضر، هو محاولة لوضع السينما الإسرائيلية والسرديات المرتبطة بها في مصاف أفلام الحرب العالمية، التي تسلح مصطلحات مثل اضطراب ما بعد الصدمة لصالح الجاني وليس المجني عليه، وتسعى لنزع السياسة عن التجربة العسكرية بل وتتجاهل حقيقة الاحتلال الاستيطاني والمجازر اليومية والدورية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي من دون مساءلة أو تلقٍ للعقاب.

# فن # سينما # السينما العالمية

فيلم «Small Things Like These»: حكاية مضادة لأفلام الكريسماس
عن الموت والتاريخ: أفضل 10 أفلام في 2024 بعيداً عن ملاحم هوليوود
أفضل 10 أفلام عربية في 2024

فن